منصور النقيدان
كان التحقيق أكثر من مرة مع عبدالله بن زيد بن محمود الذي يعقد له مجلس للتتويب في الخمسينيات من القرن الماضي شاهداً على السطوة التي كانت تبعث الرعب في قلوب نظرائه من علماء السعودية من أبناء الجزيرة، أو من العلماء الذين هاجروا أو استضيفوا في المعاهد وكليات الشريعة أو لإلقاء الدروس في الحرمين.
لكن قصة عبدالله بن محمود مع علماء السعودية مثيرة وتستحق الحديث عنها أكثر، فابن محمود هو نجدي نشأ وترعرع في وسط البلاد، وهو من تلاميذ محمد بن إبراهيم مفتي البلاد ورئيس قضاتها. ابن محمود كان معروفاً بالجرأة والتمرد، والشجاعة في مخالفة شيوخه في أي مسألة وجد أنها هي الأصوب والأرجح، وماهو أكثر إدهاشاً أنه لم يتوقف عند المسائل الفقهية أو ماله علاقة بفقه العبادات، بل كانت اجتهاداته في العقيدة وتفاصيلها كالقضاء والقدر والعلم الكلي إلى ماله علاقة بأشراط الساعة والمهدي والروايات المتعلقة بظهوره، وكانت مثيرة وصادمة لشيوخه.
وتوضح فتاوى محمد بن إبراهيم أن بن إبراهيم مارس ضغوطاً على الملك سعود مرتين لإحضار ابن محمود وعقد جلسة تتويب له. ولكن الأخير في المرة الثانية أصبح أكثر جرأة حينما أفصح أنه اجتهد ومن حقه أن يخالف ماسار عليه العمل أو الفتيا عند علماء نجد. ولهذا شهدت الستينيات والسبعينيات والثمانينات سجالاً ونشر ردود ورسائل بين الطرفين، في مسائل الحج، ورمي الجمرات، وغيرها. وتوضح فتاوى ورسائل بن محمود أن خلافه مع شيوخ كان أكبر بكثير مما كان يتوقع.
كانت القصة نفسها قد وقعت مع واحد من أكبر علماء الدين السعوديين وهو عبدالرحمن بن سعدي، الذي يكاد يكون أعظم عالم ديني حنبلي عرفه وسط الجزيرة في المئتي سنة الماضية، وقد كان لوناً مختلفاً، ليس بامتيازه على نظرائه من علماء القصيم وعلماء الرياض، وإنما لأنه كان أيضاً مختلفاً عن علماء عنيزة نفسها، التي عرف علماؤها طوال عقود بأنهم اتخذوا لأنفسهم خطاً مغايراً لمدرسة الشيخ محمد بن عبدالوهاب. تكاد تكون مدرسة عنيزة هي الأكثر اعتدالاً ووسطية مقارنة بنظرائهم في الرياض واليمامة أو (العارض). صحيح أن بريدة إلى العام 1902 تقريباً لم تكن تختلف عن عنيزة إن لم تفُقها من حيث تنوع التيارات والمدارس فيها، إلا أن ما يميز علماء عنيزة أنهم حافظوا وصمدوا لما يقارب ثمانية عقود تقريباً لتأكيد تميزهم واختلافهم. وهو الأمر الذي تلاشى تقريباً منذ منتصف ثمانينيات القرن الماضي.
فقد تعرض ابن سعدي هو الآخر للتتويب، وعقد له مجلس في الرياض بعد طلبات متكررة من المفتي محمد بن إبراهيم، الذي كان يرى في نفسه المسؤول عن تأهيل وضبط وإلجام أي عالم أو طالب علم يظهر اختلافه، حتى وإنْ ذهب إلى القول في المسائل التي اختارها (الشيخ)، أي ابن تيمية، الذي كان هو المرجع منذ الإمام محمد بن عبدالوهاب، والمخيف في الأمر أن بعض طلبة العلم ممن لاعائلة تحميه ولا جاه يبعد عنه الأذى، قد يصل به الحال من السوء والبؤس أحياناً إلى جلده بالعصا أمام شيخه ومجموعة من زملائه طلبة العلم الذين يشهدون هذا الحدث، وهم يحتسون القهوة ويهشون بمهفاتهم في جلسة الضحى بين يدي شيخهم كما حصل مع علامة الجزيرة الشيخ حمد الجاسر.