منصور النقيدان
مع قيام الدولة السعودية الثالثة عمد الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن إلى استضافة مجموعة من علماء الدين العرب الذين أبدوا ولاءهم لتعاليم الإمام محمد بن عبدالوهاب، وتعاطفهم مع الملك الجديد، من مصر وسوريا وموريتانيا ومن غيرها من المجتمعات، كما أنه شجع عدداً كبيراً من العلماء المسلمين من الهند والمغرب واليمن وغيرها للهجرة إلى الحجاز والتدريس في الحرمين، فضلاً عن علماء المذاهب الذين كانوا موجودين من قبل ضم الحجاز إلى حكم السلطان عبدالعزيز -الذي أصبح في 1927 سلطان نجد والحجاز وملحقاتها- ممن توافرت فيهم الشروط التي وضعها علماء الدين الذين كلفوا بمهمة الاختبار والتقييم.
كان الهدف غير المعلن من تشجيع هجرة العلماء إلى المملكة الجديدة هو عدم تكرار أخطاء ما حصل في بدايات القرن التاسع عشر، وخصوصاً في فترة سعود بن عبدالعزيز الكبير الذي تسببت سياساته بسقوط الدولة السعودية عام 1814، حيث ألقي القبض على خليفته عبدالله الذي حوكم في إسطنبول ثم أعدم. أي أن الغاية هي تهجين العلماء النجديين بعلماء سلفيين تلقوا تعليمهم في الأزهر أو في غيره واكتسبوا معرفة في المنطق وفي المذاهب وترعرعوا في مجتمعات أكثر انفتاحاً وأكثر تحضراً، ويمكنهم أن يسهموا في تخفيف حدة علماء الدعوة، وفي التهيئة لجيل جديد من العلماء يمكنه أن يؤدي دوراً داعماً لا معيقاً للتنمية والنهضة.
كان من بين أكبر العلماء النجديين نفوذاً هو عبدالله بن بليهد رئيس القضاة وأكثر علماء نجد انفتاحاً وحنكة وفهماً لطريقة تفكير الملك عبدالعزيز، ووجد فيه الملك ضالته، بعد ضم الحجاز. كان السلطان عبدالعزيز -وقتها- يسعى بشكل هادئ وسلس إلى أن يبقي الحجاز بعيداً عن قبضة علماء نجد، وفي منأى أيضاً عن نفوذ مطاوعتها ومحتسبيها، والأهم أن تبقى بعيدة المنال عن نشاط «إخوان من طاع الله»، الذين كانوا هم خلاصة جيش عبدالعزيز الضارب الذي مكنه من فتح الحرمين.
اعتمد الملك عبدالعزيز بشكل كبير على ابن بليهد في التعامل مع الوفود الإسلامية التي كانت تأتي مع المعتمرين والحجاج وجعله رئيس المؤتمر الإسلامي الأول الذي عقد لاتخاذ أفضل الطرق لإدارة الحرمين، كما أن ابن بليهد تولى بشكل مباشر النقاش مع علماء المدينة للوصول إلى حلول مقنعة في التعاطي مع مظاهر التبرك والتوسل أمام قبر الرسول صلى الله عليه وسلم، التي كان الوهابيون من علماء الدعوة يرونها مخالفة للتعاليم الصحيحة ومناقضة لتحقيق التوحيد. لكن يبدو أن الضغوط الكبيرة التي واجهها من قبل نظرائه واتهامه بالتساهل، وتنازله عن وظائفه بعد ثلاث سنوات فقط، ثم خلافة عبدالله بن حسن آل الشيخ له سارت بالأمور مساراً آخر.
ومع أن تشجيع المملكة لحركة هجرة العلماء إلى السعودية تضاعفت من نهاية الأربعينيات إلى نهاية الستينيات خلال حكم ثلاثة ملوك وهم الملك عبدالعزيز والملك سعود والملك فيصل، في فترة تاريخية شهدت ضعفاً كبيراً لنفوذ المطاوعًة، وفي فترة انفتاح اجتماعي وإقبال على التعليم الحديث وهجران للتعليم الديني، إلا أن العلماء الجدد الذين كانوا محط الآمال قد ذابوا وتلاشى تأثيرهم وانصهروا في بوتقة العقلية والتأثير الهائل لعلماء نجد، كما أن مما أضعف تأثيرهم المرجو مجموعة من الوقائع التي كان ضحيتها بعض من العلماء ذوي الأصول النجدية أو من المهاجرين، حيث حقق معهم من قبل زملائهم وعوقبوا بالاستغناء عن وظائفهم التعليمية، أو التجميد أو الهجران من قبل نظرائهم، إضافة إلى التشكيك في ولائهم الخالص لدعوة الإمام محمد بن عبدالوهاب، فضلاً عن قسرهم على التوبة، وكان التحقيق أكثر من مرة مع قاضي ومفتي قطر عبدالله بن زيد بن محمود الذي كان يُجلب من قطر ويعقد له مجلس للتتويب في الخمسينيات من القرن الماضي شاهداً على السطوة التي كانت تبعث الرعب في قلوب أبناء الجزيرة فضلاً عن المهاجرين، وللحديث بقية.