منصور النقيدان
خلال ثلاثة عشر عاماً اتخذ الملك عبدالله بن عبدالعزيز آل سعود أربع خطوات مهمة، منها خطابان صريحان بثهما التلفزيون الرسمي وهو يوجه توبيخاً للعلماء، الأول حين كان ولياً للعهد محذراً إياهم من أن يُحرجوا وطنهم وألا يجعلوا من أنفسهم عوناً للأعداء ضد بلدهم، في انسياقهم مع الذين أيدوا الاعتداءات على واشنطن ونيويورك في 11 سبتمبر 2001، مطالباً إياهم بأن يبينوا موقف الإسلام من ذلك.
تلا هذا الخطاب بضعة قرارات مهمة كلها جاءت في سياق الإصلاح الديني، أولها تطعيم هيئة كبار العلماء بأعضاء شباب، كان المأمول أن يكونوا تجديداً لدماء المؤسسة، وأن يحدثوا تغييراً نحو الأفضل. ولكن اثنين ممن وقع الاختيار عليهم قد أقيلا بعد ذلك، وعلى رغم أنهما كانا محط الغيرة من نظرائهما، نظراً لصغر أعمارهما ووفرة العشرات ممن ينافسونهما الحظوة، إلا أنهما كانا مخيبين للآمال، لأن المحاضن التي نشآ فيها ليست هي التي جاء منها أسلافهم الكبار، بل ترعرعا في المؤسسات التعليمية التي استحوذ عليها الإسلام الحركي، ولهذا أفتى أحدهما ضد ما أسماه بالسلوكيات الخاطئة في جامعة الملك عبدالله للعلوم والتقنية، ونشط الآخر في جمع تواقيع وتأليب أكثر من عالم دين لاتخاذ موقف رافض لقرار توسيع المسعى في المسجد الحرام، وهي التي هيأت للقرار التاريخي الذي اتخذه الملك بأن يجري استفتاء عشرات علماء المسلمين من العالم الإسلامي، متجاوزاً الفقهاء المحليين الذين كانوا على الدوام هم الأساس في الفتوى، كما أن هذا القرار -بتوسعة المسعى- هو الذي مهد لإقالة رئيس مجلس القضاء الأعلى الأسبق الشخصية الأكثر قوة ونفوذاً وهو صالح اللحيدان الذي ظن أنه قادر على إعاقة هذا المشروع، ليتفاجأ بعدها بإعفائه ومنعه من الظهور في وسائل الإعلام.
كان الفضل للمكانة التي اكتسبها اللحيدان منذ 1985 يعود إلى الملك فهد بن عبدالعزيز الذي جعل منه شبه ناظر على العلماء من زملائه، يبلغهم رسائل الملك وعتبه عليهم، ويتولى أيضاً توبيخ الذين ينحرفون عن التقاليد الصارمة التي تفرض على العلماء عدم التدخل في السياسة، أو إصدار فتاوى تجعل المملكة في حرج مع أشقائها ومع أصدقائها، وخصوصاً في اللحظات الحرجة التي كانت تستوجب حزماً وصرامة كان يفتقدها المفتي الراحل الشيخ عبدالعزيز بن باز.
وعلى رغم أن اللحيدان كان مرهوباً ومثيراً للفزع عند بعض زملائه والجيل الجديد من العلماء بفضل السلطة التي منحت له، إلا أنه كان يقوم بوظيفة مهمة للغاية، وهي وظيفة الرقيب على أعضاء المؤسسة، ومع الأسف لا يوجد اليوم من بين العلماء من يمكنه أن يقوم بهذه المهمة. ومع كل الانتقادات التي كانت توجه إليه وتحميله مسؤولية تخلف مؤسسة القضاء، إلا أنه يبقى واحداً من رجال الدولة العظماء الذين لن يتكرروا، ومن أكثرهم إخلاصاً وتفانياً. وكونه كان رجل سياسة ودين قوياً مشابهاً إلى حد كبير لشيخه المفتي الأكبر الشيخ محمد بن إبراهيم جعلت منه هذه الصفة الأكثر قدرة على قراءة ما تفكر فيه القيادة السياسية. كما أنه مع ابن باز (ت 1999) شكلا الشخصيتين الدينيتين الأكثر نفوذاً في وقت ضعف فيه جيل العلماء الأقوياء من آل الشيخ.
وجاءت الخطوة العظيمة الثالثة بمشروع إصلاح القضاء الذي استلزم للمنصب فقهاء جدداً وعلماء وقضاة مؤمنين برؤية الملك الإصلاحية، وجاء خطاب الملك الأخير الذي ألقاه الأسبوع الماضي ووجهه إلى العلماء موصياً إياهم بترك الكسل والتخلي عن الصمت وإدانة الإرهاب الذي أصبح له أرضية خصبة تستوجب الوقوف أمامه بشجاعة وأداء رسالة العلماء، وتبرئة الإسلام من إرهاب «داعش» الذي لا يزال يلقى صمتاً من كثير من علماء الدين. وهو الذي سيكون موضوع مقالتي القادمة، إن شاء الله.