منصور النقيدان
قلما استفادت الإنسانية من تجاربها المريرة مع الحروب الدينية، والأهلية، والاحتراب الطائفي، حيث تتكرر المأساة، وتعاد القصة ألف مرة ومرة، وتعيش أجزاء من المجتمعات كل حين عذاب التهميش والإذلال والإفقار والقهر ثم الاحتراب الذي يأكل الأخضر واليابس، ويكتسح كل شيء، ويسمم الأجواء ويحدث شروخاً نفسية عميقة قد لا تزول لعقود طويلة.
ينبع كل ذلك من مفهوم العدالة والمساواة، وهي المعضلة التي يستحيل اجتثاثها، لأنها مرتبطة ارتباطاً شبه عضوي مع وجود البشر، أينما حلوا وحيثما كانوا ومن أي ثقافة، ودين وعرق ولون. ولكن فرق ما بين العصور البائدة والمجتمعات الحديثة هو القدرة على إيجاد الوسائل التي تسمح للمهمشين بالتعبير، وتساعدهم على التطور، وتفسح المجال لهم لكي يدفعوا قدماً مسيرتهم، ويستثمروا ما يتاح لهم من آليات لنيل حقوقهم، ومساواتهم بالآخرين.
إلى حد ما تكاد تكون تجربة مجتمعات غرب أوروبا هي الأكثر صواباً والأقرب إلى العدالة، والأكثر احتواء لكل التوترات النابعة من شعور بعض فئات المجتمع بالتهميش. في العالم الإسلامي، تعاني مجتمعاتنا من هذا الداء الفتاك الذي تسهم فيه الثقافة والتقاليد وبعض من الأفكار والتعاليم الدينية، وأحقاد التاريخ، وما نراه اليوم في العراق وسوريا مثال حي على هذا، ولا مجال هنا للحديث عن أفكار دينية مغلوطة، لأن ممارسة الدين في النهاية هي تأويل للنصوص، وتفسير للتعاليم، ومن الطبيعي أن تكون ممارسات البشر للدين متفاوتة.
في أوروبا، خلقت أزمة الإنسانية مع العدل والمساواة، وكوارث الحروب الأهلية الدينية، جدلاً فلسلفياً ونقاشاً وأسئلة كبيرة لم تستثن شيئاً، الدين، والثقافة والتقاليد، والآداب، والمقدسات، وكل الثوابت. وفي عالمنا الإسلامي الذي ينهش فيه التعصب والعنصرية والكراهية والتمييز الديني والمذهبي والجنسي، لا تثار هذه الأسئلة رغم كل ما نراه وعشناه من كوارث، حيث كانت الثقافة والإرث والتقاليد والعادات والدين الممارس عاملاً رئيساً متسبباً فيها. إن كل ما نعيشه اليوم يؤكد أن قيام أي دولة على صبغة دينية يعني أن علينا أن نتوقع التهميش والظلم والإكراه والقسر والإذلال باسم الله.
يمكننا ملامسة هذا الشعور تجاه الملونين في مجتمعاتنا العربية، وحتى في المجتمعات التي عرفت الرق ثم منعته قبل أكثر من خمسين عاماً، فإن الجيل الأول والثاني لا يزال حتى الآن يعاني من آثاره، وكيف بقيت ظلال تلك الأيام الكالحة تسمم حياتهم، وتثير نوازع الانتقام أحياناً، فكيف بمن هم اليوم بين ظهرانينا ويعانون هذا التهميش سنة أو شيعة!
وكذلك يمكننا القول أيضاً عن أبناء أي طائفة كانت سنية أو شيعية أو غيرها حينما يتذكرون كل يوم مواقف الإذلال والتهميش ويقاسون آلام الإقصاء، ويمكنكم أن تقرأوا ذلك في وجوههم، وفي أعينهم، وفي نظراتهم الحائرة القلقة، ونبضات قلوبهم الوجلة، وفي الإنهاك الذي يغشى أرواحهم حينما يتساءلون كل يوم، لماذا؟ هل يرضى الله بإذلالنا؟ هل أوصى الله بقهرنا؟ هل جعل الله تهميشنا جزءاً من شريعته ودينه الذي ارتضاه؟ هل خلق الله البشر متساوين في كل شيء، لينزل شريعة تفرق بين عباده وترفع بعضاً منهم فوق بعض، لا لسبب إلا لأنهم بشر ضعاف ناقصوا المعرفة، يكدحون في هذه الحياة للبحث عن طرق عديدة تمنحهم طمأنينة وسلوى لاحتمال كبَد الحياة وعذابها! ولكن علينا أولاً أن نرفض بشجاعة هذا التهميش تجاه غيرنا، قبل أن نحتج ضده لأننا ضحاياه.
إن علينا أن نعود إلى أنفسنا ونتفكر كل يوم حين ننزلق دون أن نشعر نحو حمأة الكراهية ومستنقع الإقصاء، من دون أن نعي أننا نوقظ أسوأ المشاعر والنزعات التي كانت عبر آلاف السنين سبباً في عذاب البشر ومعاناتهم، والأرض اليباب التي نشهد فصولها في العراق وسوريا اليوم.