منصور النقيدان
قبل سبعة عشر عاماً وفد إلينا نزيل جديد في عنبر 1 في سجن الرويس الشهير في مدينة جدة غرب السعودية، كان شاباً دون الثلاثين، ولم يكن راضياً عن وضعه ولا عن نفسه، ولا عن قيادة بلاده، ففكر أن يعلن براءته وتخليه عن جنسيته السعودية، فأرسل بطاقة الهوية وجواز سفره بالبريد لمكتب وزير الداخلية وأرفق معها ملاحظة ذكر فيها أنه لا يحتاجها ولا يشرفه أن يكون سعودياً.
ولم يدر هذا المواطن بعدها أين يذهب، فهو كان لا يزال موظفاً يتقاضى راتبه في وظيفة حكومية شأن غيره من السعوديين، وأبوه وأمه وإخوته وعشيرته لا يزالون سعوديين وهم قانعون وراضون بأنهم سعوديون، وظهر له خلال أيام قليلة أن مصالحه مرتبطة بوثائقه التي تخلى عنها، فضلاً على أنه لا يمكنه أن يسافر إلى أي بلد من دون وثائقه ما دام غير راض. في الواقع جرى تأهيله ومعالجته من الإدمان على المخدرات، وبعد أن تحسنت أحواله كتب تعهداً بالحفاظ على أوراقه الثبوتية، وعدم إزعاج ولاة الأمر مرة أخرى، وعاد إلى حياته الطبيعية مثل أي مواطن سعودي.
وفي ديسمبر 1999 كان شيخ في السبعين من عمره قد أرسل رسالة إلى السفارة الأميركية في الرياض، ضمنها قصيدة طويلة موجهة للرئيس الأميركي بيل كلينتون، يمتدحه فيها ويتغنى بسجاياه وبكرمه وجوده الذي لا حدود له، ويشكو في قصيدته من أوضاعه الاجتماعية ومن أنه غير راض بكونه سعودياً، وقد بلغ به الحال مبلغه، وأنه فكر بكتابة هذه القصيدة إليه يلتمس منه أن يمنحه «شرهة» مجزية تليق به مادحاً وبمكانة الرئيس الأميركي مانحاً.
القصة اليوم تتكرر ولكن مع أوضاع أكثر تعقيداً وأسباب ودوافع أكثر مكراً، ذريعتها شباب سعوديون، حيث نشر تنظيم «داعش» قبل أكثر من شهر مقاطع لسعوديين ضمن الجماعات المقاتلة في سوريا يمزقون جوازاتهم وهوياتهم، ويعلنون براءتهم من الانتماء للمملكة العربية السعودية، ومن آل سعود أنفسهم. ويفسر بعض من الخبراء والإعلاميين سبب هذا التصرف بأنه تغرير وتضليل وغسيل دماغ خضع له هؤلاء المغرر بهم، من أصحاب الفكر الضال، وقد لوحظ أنه لم يكن من بين عشرات الجنسيات المشاركة في الحروب الأهلية في سوريا والعراق ممن يظهرون في تلك الأفلام من قام بتحقير انتمائه وجنسيته وتمزيق هويته أو جوازه ما عدا السعوديين، رغم أن غالبية أولئك المقاتلين من الجنسيات الأخرى يعيشون أوضاعاً أكثر سوءاً، وكرامة أكثر ضياعاً في بلدانهم التي قدموا منها.
هذه المشكلة تعود جذورها إلى بدايات تأسيس البلاد حين تمنع مئات المقاتلين من أبناء قبائل سعودية اعتنقت تعاليم الشيخ محمد بن عبدالوهاب، ورفضت مفهوم الدولة وواجهت مشروعها، كانت هذه المشكلة لعشرات السنين تخبو ثم تظهر، حتى تجلت بشكل واضح مع السلفية المحتسبة التي احتلت المسجد الحرام عام 1979، حيث توضح أدبيات ورسائل الجماعة أنها كانت مفعمة بالامتعاض من حمل الوثائق الرسمية وبطاقة الهوية، ومن الانتساب إلى المملكة العربية السعودية، والشعور بالخزي من كونهم رعايا سعوديين، امتزجت هذه النزعة مع فكر تكفيري فوضوي ساهم فيه بعض من أعضاء الجماعة من غير السعوديين.
وجاءت الموجة الثالثة مع صعود الصحوة الدينية الذي ترافق مع استيقاظ الحس بالعنصرية القبلية بعد الاحتلال العراقي للكويت، وتمثلت بخطاب كان يقوده سلمان العودة يتجاهل الإشارة إلى ذكر المملكة العربية السعودية في مئات الخطب والمحاضرات والدروس التي كان يلقيها، مكتفياً بالإشارة إلى «الجزيرة العربية»، و«أرض الحرمين». لم ينتهِ حديثنا.