قبل سنوات امتنع أحد أئمة المساجد في اليمن عن إقامة صلاة الميت على أحدهم. بقيت الجنازة ساعات مركونة في زاوية المسجد. امتنع الإمام فأحجم الباقون. راوي القصة كان يحكي أن وقع ذلك على أقارب الميت جاء كالصاعقة. كاد الأمر أن يصل إلى نزاع مسلح. قال الإمام: إنه لم يكن يصلي. ليس مسلماً. صلوا عليه أنتم. ثم خرج.
إقامة الصلاة على الميت هي آخر ما يربط الإنسان بدينه، بهويته، إنها دماء تلك الرابطة التي تصله بجماعته، بأمته، هي تحقيق لمعنى الانتماء. قد يقاطع اثنان بعضهما بعضاً. يتهاجران سنين عدداً. يظلم أحدهما الآخر. ويأكل حقه. وإذا مات، ذهب ما في النفوس وذكر الآخر حق المسلم بالصلاة عليه وتشييع جنازته.
القصة كما يحكيها الراوي كانت حاثة لكثير من جيران المسجد أن يواظبوا على أدائها. فمن الذي يرضى أن تكون نهايته كتلك النهاية المؤسفة؟
لم تنقل كتب التاريخ – حسب علمي – حادثة من هذا النوع طوال أربعة عشر قرناً. وباستثناء من قُتلوا بالزندقة. فإن اجتهادات في الشريعة كالقول بكفر تارك الصلاة لم تكن تتجاوز نطاقها في كتب الفقه ومجال البحث بل ظلت قابعة في إطارها العلمي، ولم تطلق من عقالها، لتقفز وتتجسد واقعاً وممارسة بإثبات حقيقة ما يُدعى من ترك فلان للصلاة. وانتهاءً بشهادة الشهود أنه فارق الدنيا ولم يركع لله ركعة واحدة. كانت الأمور تجري على العفو، وسؤال المغفرة، وطلب الستر. وأمر آخر: أن قول جماهير العلماء بصحة صلاة المنفرد في بيته وفي سوقه وفي دكانه، تقتضي أخذ الناس على أحسن المحامل.
لهذا كان الأسى الذي شعر به بعضهم جراء الضجيج والضوضاء التي صحبت تشييع جنازة نزار قباني وعند الصلاة عليه، واعتراضِ بعضهم على إقامة الصلاة على الشاعر الكبير بوصفه (كافراً مرتداً). ولكن لو أن من امتنعوا أو اعترضوا كانوا يعلمون أن لهم نصيباً في تركة الميت أو وصيته هل كانوا سيمتنعون؟ إنه امتحان صعب، وتحد كبير. فأنت لن ترث إنساناً لا تجوز الصلاة عليه. لأنهما مرتبطان بعضهما ببعض على الأقل كما هو في المذاهب الفقهية الأربعة.
مات الحارث بن أسد المحاسبي 243هـ ولم يتبعه في جنازته إلا أربعة من أصحابه. فارق الدنيا بعدما هرب من أذى العامة ولزم بيته حتى توفي شيخاً كبيراً. في ريعان شبابه تعلق الحارث بأبيه أمام الناس وصاح به: (طلق أمي فأنت على ملة غير ملة الإسلام). ومات أبوه قطعاً من دون أن يصل عليه، ورفض الحارث أن يرثه. ليدور الزمان ويموت الحارث وحيداً منبوذاً بتشييع لا يليق بمن كان بمثل منزلته.
ولما توفي والده كانت حصته من التركة سبعين ألف دينار، لم يأخذ منها ديناراً واحداً، بحسبان أن الإسلام يمنع توارثَ أهلِ ملتين.
كان والد المحاسبي مسلماً ولكنه كان (قدرياً) من المعتزلة، وكان ابنه الحارث على طريقة عبدالله بن كُّلاب. سبعون ألف دينار امتنع المحاسبي عن أخذها وعاش فقيراً معدماً. لقد كان بإمكانه أن يجد له منفذاً ورخصة بمذهب بعض الصحابة الذين جوزوا أن يرث المسلم من الكافر، وقد كان فقيهاً كبيراً مشهوداً له بتخصصه فقه الأموال.
موقف المحاسبي من والده كان ينم عن تشدد وغلو، فجماهير أهل الحديث لم يكونوا يتعاملون مع المعتزلة بوصفهم غير مسلمين، وإن بدرت من بعض من سلف عبارات مغلظة اختُلِف في تفسيرها تنبزهم بالكفر، وكانوا يتخذون ضدهم إجراءات صارمة على الصعيدين الاجتماعي والثقافي امتلأت بها كتب العقائد، مثل هجرهم والنهي عن مجالستهم أو الدخول معهم بنقاش أو قراءة كتبهم، إلا أنهم كانوا يجرون عليهم أحكام الإسلام الظاهرة، يَرِثُونَ ويُورثونَ، وكان كبار أئمة السلف يعدون مخالفيهم من أهل الفرق ملِّيِّين. من أهل ملة الإسلام، ولما ألف أبو الحسن الأشعري كتابه عن الفرق والطوائف سماه (مقالات الإسلاميين واختلاف المصلِّيءن). وكان بعض من السلف يحتجون بأن المنافقين في عهد الرسول كانوا يرثون ويورثون ويصلى عليهم ويدفنون في مقابر المسلمين، ومع أن آية سورة التوبة {ولا تصلِّ على أحد منهم مات أبداً ولا تقم على قبره} نزلت مباشرة بعد وفاة ابن سلول وقيام الرسول صلى الله عليه وسلم على قبره وصلاته عليه واستغفاره له، إلا أنه لم ينقل أنه امتنع لاحقاً عن الصلاة على أحد ممن وصفوا بالنفاق وهم خلق كثير، ولم يمنع من توريثهم، ومنهم قطعاً من مات في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، ومنهم من مات في عهد خلفائه، وإن كان يحكى عن بعض الصحابة جواز توريث المسلم من قريبه المرتد.
شدة المحاسبي على أبيه وعلى من خالفه من المعتزلة لم تكن نهاية المطاف، فالغريب أن المحاسبي كان صوفياً وله مجلس وعظ يعقده بمنزله، وقد كانت طريقته جذابة ومحببة إلى عامة من يحضرون مجالسه. فإن يجمع الإنسان بين التصوف بشفافيته وروحانيته، وبتسامحه ورحابته، وبين تكفير مخالفيه من المسلمين، وتأليف الردود عليهم، هو أمر مثير للدهشة.
بعد أن أصبح المحاسبي شيخاً معروفا له أتباع ومريدون طاله شيء من نار التضليل والتبديع. كان المحاسبي لوناً جديداً، وكانت طريقته في الوعظ والتأليف غير مسبوقة. كانت جذابة، حتى إن محدثاً كبيراً كأحمد بن حنبل لم يستطع أن يقاوم إغراءه فحضر مجلس وعظه متخفياً ولم يملك أن بكى، غير أنه بعد انصرافه من مجلسه حذر من الاستماع إليه، ونهى أصحابه عن القراءة في كتبه. انصب تركيز المحاسبي على أمراض النفوس وأدوائها، مما جلب له الإزعاج – ربما غيرة – من بعض أقرانه الذين كانوا ينتقدونه لأن طريقته مخالفة لما كان عليه كبار الصحابة أبو بكر وعمر.
المحاسبي كما يقول المثل الشعبي (مثل معايد القريتين) فلم يكن صوفياً خالصاً، ولا أثرياً خالصاً، لقد كان مزيجاً بينهما، لهذا لم يكن يقبل منه في مدة استثنائية من التصنيف العقدي والفكري، شهدت (محنة خلق القرآن)، إلا أن يحسم خياره.. ومع أنه كان صوفياً حتى النخاع في الباطن، إلا أنه كان يخاف أو(يجامل) التيار السائد المتسيد.
قد تكون قصته مع أبيه وامتناعه من أن يرثه، في وقت مبكر من عمره، شيئاً من الممكن فهمه، ولكن أن يقوم بتأليف كتاب في الرد على المعتزلة، بعد أن عُرف بمذهب التصوف، وكان أول من نشره في بغداد، وفي الوقت الذي كان بعض مريديه وأصحابه يُتَّهمون بالقول بمذهب الحلول، فهو أمر محير، إلا أن يكون تفسير ذلك بأنه كتب في الرد على المعتزلة، درءاً للظنون عنه، ودفعاً للشبهة.
أحمد بن حنبل لم يكن راضياً عن كتابه بل قام بتوبيخه، معللاً ذلك بأنه استوفى (شبه) الخصوم في رده، الأمر الذي لا يؤمن معه أن يقرأها أحدهم فيتشرب ما فيها، وتضعُف حجة المحاسبي عن النهوض بنقضها.
عداوة المحاسبي للمعتزلة وردوده عليهم وتكفيره لأبيه وامتناعه عن أخذ نصيبه من التركة لم تشفع له لينال الرضى ويكونَ في عداد الكبار من الأئمة أسوة بمعاصريه وأقرانه كابن حنبل وبشر الحافي والرازيَّيءنِ أبي زرعة وأبي حاتم، مع أنه كان يفوق هؤلاء في ملكته الفقهية، وقوة استنباطه، وقدرته على التأليف بأسلوب بديع أخاذ. كانت صلته وثيقة بالصوفية وقد التف عدد من مشاهيرهم وأئمتهم حوله، بحضورهم مجالسه كالنوري والجنيد والبسطامي. وإن كان من ترجموا له ينقلون عنه أنه كان شديداً على من شطح من أصحابه، كأبي حمزة الصوفي وقد كان متهما بمذهب الحلول. أبويزيد البسطامي عينه كان منبوزاً بذلك. ولم ينقل أن المحاسبي اتخذ أي إجراء صارم ضده.
وكان النوري أحد الذين سلموا من التصفية التي استهدفت رؤوس الصوفية إثر شيوع اتهامهم بالزندقة والإلحاد.. بعد وفاة المحاسبي بسنوات.
المؤرخون يذكرون أن أحمد بن حنبل غضب على الحارث وهجره، فاختفى في بيت حتى مات! أهكذا يفعل من يهجره الناس حتى وإن كانوا أقرب المقربين منه؟
هل أراد المحاسبي أن يختم حياته الملأى بالمتناقضات بغيبة كالطفل حينما تنهره أمه. يشتد في الجري هائماً على وجهه ليلوذ بأبعد مكان لا تطاله عينها. وينكفئ على نفسه باكياً. تماماً كذلك الموقف الطفولي الذي اتخذه من أبيه أمام الناس في القِدم، فلم يكن الأمر يستحق كل تلك الفضيحة، وشماتة الناس ونظراتهم الحارقة. لقد مات صوفياً ينشر الحب ويدعو إلى السلام. لكنه لم يكن مستعداً لأن يعترف بأخطائه: بموقفه من أبيه رغم أن منزله كان يحوي أشخاصاً غمزوا بأفكار أكثر انحرافاً. كان مشدوداً بين مثالين عاليين. بين مثال ماضيه ومثال حاضره. كان مضطراً ليتحول عن الأول ولكن ببطء شديد وبصعوبة وبأسى، ولكنه عاد كرة أخرى بضغوط من التحول الذي طرأ عقيب محنة خلق القرآن، ليظهر وفاءه لماضٍ كان فيه أشد غلواً، وليبعد عنه الأعين، وهذر الواشين والفضوليين. فتحدث بلغتين وسلك طريقتين، وأمسك بالعصا من وسطها، ولكنه لاأرضاً قطع ولا ظهراً أبقى.
(صحيح أن المبدعين والعباقرة الكبار شأنهم شأن الغابات الكثيفة، يصعب اكتشافهم بالكامل أو دفعة واحدة، ولكن بإمكاننا تلمس ذلك عبر مفاتيح لا تتيسر عن طريق الشخص نفسه موضوع الدراسة، لأنه ربما لا يريد أن يسلم الآخرين مفاتيحه، ولكننا نعلم أنه في حالات كثيرة تكون الكتابات الموازية ممن لهم صلة بالشخص نفسه هي الوسيلة الوحيدة للنفوذ لاقتحام هذا العالم ومعرفة أسراره وتعقيداته وخلفياته).
حينما نمسك بالخيط الأول والمفتاح لتلك الشخصية ربما نستطيع أن ننفذ إلى مفاتيح أخرى تكشف لنا حتى الدوافع الحقيقية للمواقف الفكرية والآراء العلمية التي يظل الباحثون حائرين لمعرفة سر قول مفكر أو فقيه ما بها، أو تبنيه لها. آراء تنتسب إلى أنساق فكرية أخرى أجنبية تماماً عن النسق الذي نشأ عليه ودرج فيه، وكان أكبر المنافحين عنه بكل ما أوتي من حجة وبيان.
يقال: إن الأسطورة كثيراً ما تجامل القديسين، وتحابي المؤمنين الصادقين. لكن نهاية الحارث المحاسبي كانت رغماً عنا مأساوية.. لقد كان ضحية في لحظة انعطافة وتحول.. فليرحم الله المحاسبي.