يذكر الشيخ يوسف القرضاوي في إحدى حلقات برنامج الشريعة والحياة، أن كتابه (الحلال والحرام) تأخر طويلاً قبل أن يجد طريقه إلى المكتبات في السعودية، وأن مفاوضات دارت حول إمكانية فسح توزيعه. الكتاب كان يتضمن آراء للقرضاوي في مسائل كـ(الحجاب، والغناء، والتصوير) كانت مخالفة للرأي الفقهي السائد محلياً. تم الاتفاق أخيراً على أن يطلق سراح الكتاب، باعتبار ماحواه من مسائل خالف فيها هي مسائل اجتهادية قابلة للصواب والخطأ، بينما يقوم أحد طلبة العلم بمناقشة ماتضمنه كتابه والرد عليه.
الموقف نفسه تكرر مع عالم الحديث الألباني عندما عرض القرضاوي عليه أن يقوم بتخريج كتابه حيث رأى الأول أن من حقه أن يبدي رأيه ويقف عند المسائل التي يختلف مع القرضاوي فيها، فخصص صفحات لذلك، مخالفاً التقليد المتبع في كتب التخريج حيث يكتفي المؤلف ببيان من أورد الأحاديث مع الحكم بدرجتها من الصحة والضعف من دون أن يتجاوزه إلى طرح وجهة نظره المخالفة للمؤلف. الأمر ذاته وقع مع الألباني في كتابه (الحجاب) والذي طُبع لاحقاً باسم(الجلباب)، فقد تأخر دخول الكتاب إلى السعودية لأكثر من عقدين.
وبعيداً عن كون المسائل التي خالف فيها القرضاوي أو الألباني معروفة في التراث الفقهي، ومنثورة في كتب الخلاف والمذاهب،إلا أنها تشير إلى إشكالية مزمنة يعاني منها خطابنا الديني منذ البدء تجاه المخالف. والتي تتدرج تصاعدياً من استشناع أقوال المخالف، مروراً بتوبيخه والتحذيرمن فتنته، وانتهاءً بإتلاف كتبه، واستتابته وربما الحكم بكفره أوتأديبه الذي يصل إلى قتله ردة أو تعزيراً، كما حصل مع الفقيه أبي حنيفة، أو مع ابن تيمية الحنبلي، وأبي الوليد الباجي، وابن رشد القرطبي.
الأسبوع الماضي نشرت الصحف خبر إصدار مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر قراراً بعدم مصادرة الكتب التي تحوي أفكاراً منحرفة أو مضللة، والاكتفاء بمناقشتها دون مصادرتها، لأن في ذلك ترويجاً لها وانتشاراً، الأمر الذي دفع كثيراً من المؤلفين إلى أن يُضمِّنوا مؤلفاتهم بعض الأفكار الجريئة أو المخالفة للسائد طمعاً في أن تحظى بموقف متشدد من رجال الدين مما ينعكس إيجاباً برفع مستوى توزيع الكتاب وانتشاره.
د.عبد المعطي بيومي أحد الأعضاء الموقعين أشار إلى أن (الأصل في نشر الكتب هو الإباحة وعدم المصادرة وبالتالي فإن اتخاذ قرار بمصادرة كتاب يتطلب الاستناد إلى حجج قوية جداً حتى نستطيع العدول عن الأصل – وهو الإباحة – إلى المنع والمصادرة).
الحجج القوية التي أشار إليها البيومي، لم تكن يوماً تعوز أحداً – فمن إلزام عبدالله بن المبارك من أراد تعلم الحديث على يديه أن يتلف كتب أبي حنيفة، مروراً بمؤلفات ابن حزم التي أحرقها خصومه من الفقهاء، فكتب ابن رشد، إلى إتلاف ابن تاشفين لما سوى كتب الحديث والتفسير، فتتبع خصوم ابن تيمية من المتأخرين لفتاواه حتى نصل إلى كتب القصيمي فنصر أبو زيد، ومحمد شحرور. في تنويعة امتدت في الزمان إلى العهد الأول والمكان عبر رقعة شاسعة من إندونيسيا حتى الأندلس – كانت الحجة دائمة جاهزة: صيانة الشريعة، وإبراء الذمة، وحماية جناب التوحيد.
الموقف من الكتب ومؤلفيها كان يعكس مدى الحرية المتاحة للتعبير والتأليف، بدءاً من مجالس المناظرة، التي كانت تعقد في قصور الخلفاء، والمدارس، إلى حلق الجوامع والمساجد التي كانت تعج بها. حرية التأليف كانت مقياساً لحرية التعبير، فلا يمكن لك أن تسمح لشخص أو لمذهب أو لصاحب ملة أو نحلة أن يعبر عن أفكاره، ويمارس طقوس وشعائر دينه، وأنت تحارب كتب عقيدته ونتاجه الأدبي أو الفكري! فإذا اتسع صدرك -ولو على المستوى النظري- لفقيه مالكي أو حنفي أو لأشعري وصوفي بأن يعبرعن رأيه، ويفصح عن معتقده، وأن يفتي ويخالف ويرد ويناقش، فكيف تضيق عطناً بحقه في أن يصل الجمهور إلى إنتاجه،أو تحول دونه ودون التأليف؟!
جاء عمربن الخطاب يوماً إلى الرسول (صلى الله عليه وسلم) بنسخة من التوراة، كالمستأنس بما فيها، فغضب الرسول وقال:(أمتهوكون(أي حائرون بما أتيتكم به) ياابن الخطاب؟ لوكان موسى حياً لما وسعه إلا اتباعي). موقف الإسلام من التوراة والإنجيل واضح منذ البدء. وهو أنهما تعرضا للتحريف والتبديل، فجاءت وصايا النبي للمسلمين أن لا يردوا مايحدثهم به أهل الكتاب، بل عليهم أن يصغوا إليهم فلا يصدقوهم لاحتمال أن يكون ذلك مما جرى تحريفه مالم يكن تصديقه في القرآن، ولا يكذبوهم فيكون ذلك مما لم يُبدَّل فيردوا الحق مالم يأت تكذيبه في القرآن. كانت الحاجة إلى ذلك ماسة، فبقاء أهل الكتاب اليهود والنصارى سيكون مرتبطاً بوجود الإسلام والمسلمين، لهذا كانت أحكام أهل الذمة نتاج تراكم من الاجتهادات والأقضيات والحوادث من عهد الرسول وحتى عصر المماليك. كان هناك دائماً حاجة ملحة لمناقشتهم، ودعوتهم، والدخول بجدل واسع حول صحة أي من الأديان الثلاثة أولى بالاتباع، وكان إباحة الزواج من نسائهم تتويجاً لهذا، ومع موقف الرسول الحازم من عمر في قصة التوراة، إلا أنه كان هناك دائماً موقف أكثر بحبوحة على مستوى الواقع المعاش، فعبدالله بن عمرو بن العاص كان يمتلك مزادتين من الإسرائيليات، ومن ضمنهما العهدان القديم والجديد، التي وجدت طريقها متغلغلة في كتب السنة والتفسير، وكان يحدث بها ويتناقلها تلاميذه من بعده، كما كان الأمر مع كعب الأحبار ووهب بن منبه، وكان الحصول على تراث أهل الكتاب متيسراً غير متعسر، وقد جرت مناظرة شهيرة بين الرسول ونصارى نجران حول صحة رسالته، وتكررت هذه المجالس بين متكلمة المسلمين ومعتزلتهم من جهة وبين أهل الكتاب وغيرهم لاحقاً، ومع هذا الموقف من أصحاب الملتين، إلا أنه كان هناك موقف أكثر صرامة وشدة تجاه المخالفين أوالمتسائلين من المسلمين، باعتبارهم أكثر ضرراً وخطراً، فعمربن الخطاب أكثر الصحابة اعتراضاً على الرسول (ص) وأكثرهم تساؤلاً حول الحكمة من التشريعات، كاعتراضه على المعاهدة التي أبرمها الرسول مع مشركي مكة في صلح الحديبية، وكما في موقفه من خروج نساء الرسول لقضاء حاجتهن في المناصع خارج المدينة. كان عمرلاحقاً يذكر أنه كلما تذكر اعتراضاته على صاحب الرسالة تصدق من ماله بما يرجو أن يكفرالله به عنه، وقد كانت المفارقة واضحة في موقف عمربن الخطاب من صبيغ بن عسل الذي كان يكثر طرح الأسئلة حول الآيات ودلائلها ومعانيها فأدبه عمر بالعصا ليوقف سيل الأسئلة التي كان يثيرها، كان عمر ينظر إلى صبيغ وأسئلته المزعجة باعتبارها شكوكاً تنعكس على البسطاء والعامة سلباً، ولم تكن أسئلة مسترشد، مثلما يحكي مجاهد بن جبر الذي عرض القرآن كاملاً على ابن عباس، يوقفه عند كل آية ويسأله عنها. أدب عمر صبيغاً ولم يخل سبيله حتى أقر أنه قد ذهب عنه ماكان يجده!
هذه الصرامة والشدة لم تكن تقع مع المخالفين من أهل الملل، سواء من الكتابيين أو من المجوس أوغيرهم، فقد كان التقليد لدى السلف أن المخالف من المسلمين المعتزلة، أوالشيعة وغيرهم أشد خطراً وأعظم ضرراً. ولم يكن المعتزلة استثناءً، فدورهم في محنة خلق القرآن وإغراؤهم للخلفاء بتعذيب الفقهاء وأهل الحديث خصوصاً وامتحانهم على ذلك لايشفع لكل ادعاءات من برأهم أو وصفهم بالتسامح وقبول الآخر.كان القمع متبادلاً يحكمه مدى مساحة النفوذ والسيطرة.وكانت الأيام بين الفُرَقاء دولاً.
آراء وكتب الفقيه الكبير أبي حنيفة كانت تلقى معارضة شديدة من علماء الحديث، فقد كان عبدالله بن المبارك وغيره يشترطون على من أراد أن يدرس علم الحديث أن يتلف كتب أبي حنيفة، كما أن الحارث المحاسبي كان يقابل بالصدود والتنفير، وقد كان أحمد بن حنبل وأبو زرعة الرازي ينفران من قراءة كتبه وحضور مجالس وعظه، ويعلل الرازي ذلك :بأن أبا بكر وعمر لم يؤلفا في خواطر النفوس وأمراضها كما فعل المحاسبي.
ما تذكره كتب التاريخ ويركز عليه المعاصرون من الإسلاميين من قصص تعكس التسامح تجاه الآخر، أو كتب المخالفين و(أهل الأهواء) في القرون الأولى، مستشهدين بما كان يجري في قصور الخلفاء أو موردين وقائع عن جدل يدور في زقاق أو مسجد لم يكن توصيفاً أميناً للواقع، بل كان صورة مبتسرة غير مكتملة، فكتب مثل (يتيمة الدهر) للثعالبي، أو تفسير الزمخشري، أوالأغاني أو ديوان أبي نواس وبشار بن برد، وكتب الجاحظ، وكتب الصوفية كابن عربي أو كتب المتكلمين لم يكن لها أن تجد طريقها إلينا لو أن الأمر كان بيد العامة الذين كانوا هم دائماً أعلى الأصوات تشدداً ، فمن رجموا بيت ابن جرير الطبري واتهموه بالزندقة، ومن كانوا يرمون مجالس المناظرة في جوامع بغداد بالطابوق والآجر ويثيرون الشغب، ومن كانوا يعترضون طريق ابن تيمية وهو خارج إلى صلاة المغرب لينال على أيديهم علقة ساخنة، ومن داهموا بيت لسان الدين بن الخطاب ليقتلوه شر قتلة، هم اليوم من يحولون دون فسح كثير من كتب المذاهب الفقهية التي تم الاعتراف بها على مرالتاريخ من قبل أكبر علماء المسلمين وأئمة مذاهبه المتبوعة، وتم الاعتراف بهم رسمياً ولو نظرياً، وفي اللقاءات الصحفية المحرجة، أو في افتتاحيات دورات المجامع الفقهية التي تنضح بالمجاملة، بعيداً عما يحدث على أرض الواقع. فكيف لنا أن نستغرب إحراق وإتلاف كتب ابن حزم الظاهري، وابن رشد وقيام ابن تاشفين بإتلاف كل ماوقع بيده من كتب الكلام والمنطق والأدب بحيث لم يبق منها سوى كتب الحديث والتفسير، ونحن نعلم جيداً أن كتب العقائد ومتونها تنص دائماً على أنه: من السنة هجران أهل البدع ومباينتهم وترك الجدل والخصومة في الدين، وتحرم النظر في كتبهم والدخول في جدل معهم؟ وحتى الذين أيدوا مثل هذه النظرة وأصّلوا لها كالفقيه الحنبلي ابن تيمية لم تسلم كتبهم من الإتلاف والمصادرة، فقد حورب لأجل اجتهاداته في حياته ومات مسجوناً مظلوماً.
ماكان يجري من صور للتسامح لم يكن سوى انعكاس للتنوع والتعدد والتدافع القسري الذي فرضته سنة الوجود الذي كان يموج به المجتمع الإسلامي، متمثلاً بالجزر والدوائر المنفصلة التي تجعل كل فئة مكتفية بنفسها، بعيداً عن الأخرى، فالفقهاء وأهل الحديث كانوا جزيرة أخرى، لاتعكس ماكان يعيشه الأدباء والشعراء، وقد قال الشافعي: لاتخبروا أهل الحديث عن علمي بالشعر وحفظي له!
غير أن من كانوا يحركون الشارع، ويقودون العامة كانوا هم دائماً الأقوى والأغلب، فبإمكان درويش واحد، أن يثير فتنة عاصفة لاتهدأ، كما وقع مع البخاري صاحب الصحيح وتلميذه مسلم القشيري بسبب شيخهما الذهلي، وكما وقع مع أبي الوليد الباجي.
(إنكار المنكر) وحماية الشريعة مما يلوثها، هوالأصل الذي ترجع إليه كل (السياسات) الدينية التي اتخذت مع المخالفين على مستوى التعبير والتأليف، واستمر هذا الشعار على مر التاريخ هو المسوغ لكل ماتم اتخاذه تجاه الخصوم والمنشقين، يوظفه المحدث والأثري تجاه مخالفيه من الفقهاء وأهل الرأي، والمتكلم ضد الفيلسوف، والثائر ضد من يخرج عليه، والفقيه ضد الصوفي، والإسلاميون ضد أعدائهم، وضد كتب الفكر وضد الرواية ومن كتبها. الجميع يضرب بسيف الشريعة. وكثيراً ماتم تبادل الأدوار، وأصبح الجلاد هو الضحية. شاهده: عبدالصبور شاهين تجاه نصرأبو زيد، وآخرون تجاه عبدالصبور. يتم التعامل مع الآراء المخالفة باعتبارها فتنة وضرراً على الدين، وتشويها لنقائه.. وإذا كان قد وقع كثير من الخلط والتماهي، ولبس بين مايتعرض للذات الإلهية وينال من قداسة الرسول(ص) وينتقص منه،أو يطعن في الإسلام ويشوه قيمه، وبين ما تتضمنه كتب أخرى عرضاً وشرحاً لآداب وعقائد ومذاهب وفلسفات الأمم والشعوب؛ فالأدهى أن يحصل اليوم ماهو أشنع حينما لايفرق الرقيب الإعلامي بين ماهو الحق عند الله، وبين ماهو اجتهاد لفقيه، أو رأي للجنة فتوى لاتختلف عن غيرها من لجان تزخر بها رقعة ممتدة من إندونيسيا حتى المغرب.
إشكالية حرية التعبير/التأليف ضاربة الجذور في عمق ثقافتنا الدينية، فالكل كان يمتطي راحلة صيانة الدين والذب عن سنة سيد المرسلين متى ما لاحت المصلحة أو شعر بتهديد لنفوذه وتقليم لأظفار سلطته، والأقل من الحوادث ماكان يعكس الأصيل من الدين.. ومن عرف الإسلام وأحاط بالشريعة- وعرف موقف الرسول(ص) من كعب بن الأشرف الذي كان يدبج القصائد بشتم الرسول، وإهداره لدمه، وأمره بقتل الجاريتين (الجرادتين) حتى ولو وجدتا متعلقتين بأستار الكعبة، وقد كانتا تغنيان بأشعار فيها سب للرسول وطعن فيه، وإهداره لدم ابن أبي السرح الذي ارتد عن الإسلام وكان يحكي أنه كان يكتب القرآن للرسول-أدرك تماماً أن كل مايدعيه البعض من موقف الشريعة من حرية التعبير ليس إلا تزييفاً.
نعم إن فيما تناقلته كتب السنة والسيرة وماتضمنته آيات القرآن من سياسة الرسول تجاه المنافقين وابن سلول على وجه الخصوص، ما يوضح أن الأمر كان أكثر تسامحاً مما هو عليه اليوم.
الموقف النفعي الذي تجلى في قرار مجمع البحوث في الأزهر لم يكن موفقاً البتة، ولم يكن أصيلاً ولا مقنعاً، ولم يعكس تحولاً جذرياً في الرؤية، كان مشبعاً بالإحباط والانكسار إثر الضربات الموجعة من الدعاوى التي أقيمت ضد الأزهر، وخسر أكثرها كما ذكر أحد الموقعين، وأما تعليل ذلك بأن المنع يضمن الرواج والانتشار، فهو يلامس أهداباً من الحقيقة.. شيئاً من الواقع. ولكنه أخطأ مرتين.الأولى حينما أغفل التاريخ.. وتجربة أربعة عشر قرناً، وثانياً حينما تجاهل أن الأفكار الكبرى.. الثائرة.. الجريئة.. الفاضحة، وأن الإبداع الحقيقي هو مايضمن الرواج والانتشار وهو ما أمد بعض ماأنتجته أعظم العقول الإنسانية بالبقاء عبر ألفي عام أو أكثر.وللأمانة والتاريخ، فإن كل مايتفوه به أصحابنا اليوم من حديث وجدل حول حرية التعبير، لم يكن سوى نفحة من حضارة نقتات على نتاجها، ننبهر بألقها، يسحرنا جبروتها، ويكسرنا من الأعماق تفوقها، ولكننا نأبى إلا أن نحجب الشمس بأكفنا.