منصور النقيدان
تنقل كتب السيَر والتراجم وقائع تعبر عن خلاف بين بعض المتقدمين من أئمة الحديث وبعض الفقهاء ممن عاصروهم، حول الاجتهاد ومكانة الرأي والقياس والتحسين، واعتبار المصالح، واجتهاد الصحابي وقوله. كل هذه المسائل كانت تعبر عن تنازع بين المدرستين، ومناظرات كانت تجري بينهما، حيث اشترط الإمام عبدالله بن المبارك من أحدهم أن يعلن براءته من كتب الإمام أبي حنيفة، لكي يأذن له بالتتلمذ عليه، ولكن جاءت فتنة خلق القرآن في عام 218 للهجرة، لتبلغ بالأمور ذروتها.
انصبت المحنة في الأساس على أئمة الحديث الكبار الذين وقفوا ضد القول بخلق القرآن، ولم تكن المحنة إلا ذريعة لتقليص نفوذ أهل الحديث الذين رأى فيهم المأمون المعتزلي خصومه.
نتج عن محنة خلق القرآن موقف معاكس غير متوقع، فقبضة المأمون وسطوة الواثق وشراسة المعتصم، لم تورث موقفاً متطرفاً ومعادياً للسلطان والخليفة الذي كان يدعم المعتزلة وأهل العقل، ويقمع أهل الحديث ويجبر الناس على قول الكفر (القول بخلق القرآن). ومع ذلك لم يتخذ أهل الحديث موقفاً ثورياً أو متمرداً ولم يدعوا إلى الخروج. باستثناء موقف أحمد بن نصر الخزاعي الذي كان يعد للثورة ويعلن كفر الخليفة بسبب المحنة، فإنه يكاد يكون معظم ما يروى وينقل عن العلماء في طاعة السلطان، هو مما قيل في فترة المحنة وبعدها بقليل.
وبعد منتصف القرن الرابع تقريباً كانت كتب الحديث المعتمدة، وعلومه قد اكتملت، وما تلا ذلك كان تنويعاً وتفريعاً وشرحاً وتسهيلاً، حيث حصر العلماء اللاحقون والمؤلفون أنفسهم في الاجتهاد في ما تركه الأئمة المتقدمون، وزامن ذلك ما يمكن وصفه بـ”حنبلة” أهل الحديث.
القرن الخامس الهجري شهد التمدد الكبير لنفوذ الفقهاء، والازدهار المدهش في علوم الشريعة التي كان الفقه هو آخيتها وواسطة عقدها. كل علوم الإسلام كانت خادمة لوظيفة الفقيه/ القاضي المشرع. وفي المقابل نلاحظ انحسار مدرسة أهل الحديث، والجمود الذي اعتراها، لأن علوم السنة كانت شبه مكتملة والاجتهاد في أحكام الجرح والتعديل كان أشبه بخط أحمر لأسباب لا يمكن هنا شرحها، واقتصر المتأخرون من المحدثين على حفظ النصوص وتفسيرها، ولهذا كان ظهور ابن حجر العسقلاني في المئة الثامنة استثناء حقيقياً، يشبهه من بعض الوجوه ظهور محمد ناصر الدين الألباني في منتصف القرن العشرين، إلا أن العسقلاني لم يحدث ثورة تشبه ما فعله الأخير.
باختصار برزت سلطة الفقهاء هنا ورجحت كفتهم، حيث أصبح تفسير الحديث وظيفتهم، وكان ذلك تعويضاً مرضياً لهم. وتزامن انفراد الفقهاء مع ظهور حنابلة كبار في القرنين السادس والسابع الهجريين: المقادسة وآل تيمية.
للتذكير أخيراً فإن ظروف المحنة وما صاحبها من جدل وسجال، هيأت لحقبة جديدة تمتاز فيه مدرسة أهل الحديث والأثر/ السلف بالطاعة ورفض الخروج، خلافاً لأسلافهم المتقدمين من القراء مثل ابن جبير الذي شارك في الثورة ضد بني أمية. والأهم من ذلك أن أهل الحديث كان لهم موقف رافض من إنشاء الأخويات، والتنظيمات والرابطات التي تتصف بنظام مغلق، مثل موقف أحمد بن حنبل من الحارث المحاسبي، في فترة كانت بغداد وحواضر الإسلام تعج بها، وتنتشر انتشار النار في الهشيم، وكان تأسيس المهدي العباسي لديوان الزندقة ردة فعل لهذه الظاهرة.
هذا الاستطراد حول موقف أهل الحديث من الخروج والثورات ضد الأمراء والخلفاء مهم، لأنني سأعود وأذكر به لاحقاً.
جريدة الاتحاد الإثنين 27 أغسطس 2012