منصور النقيدان
في صغري كنت أتفادى إثارة غضب عجوز كانت تبيع في بسطتها على أبناء حارتنا الحلوى وعصير التوت المجمد، وكنت أخشاها لأنها كانت متى ما أزعجها صبي منا تستقبل القبلة وترفع يديها، ولا يقنعها إلا أن ترى الأشقياء تحت “كفرات تريلة”. كل واحد منا يكون رصيده في حياته مئات أو آلاف الدعوات والصلوات التي وجهت له خيراً أو شراً، ولكننا لا نعرف أثر تلك النوايا الإيجابية والسلبية التي سلطت نحونا عن قرب أو بعد.
وفي حياة المسلم التقي فرص كثيرة آناء الليل وأطراف النهار لإرسال النوايا الحسنة، أو النوايا السيئة، فالدعاء بالخير والصحة والأمن والسعادة والكفاية هو تعبير عن عواطف إيجابية ونوايا خير يرسلها الداعي للطرف المقصود بالدعاء، بينما يمثل الدعاء على شخص ما بالهلاك أو الجنون والأمراض المستعصية والفقر والخذلان، تعبيراً عن عواطف تختزن الكره والعداء والبغضاء. فالعواطف السلبية تستتبع نية وإرادة سيئة، ولهذا يكون الدعاء ترجمة لكل هذا.
في ذروة الخصومات المذهبية في فترة مبكرة من الإسلام زار واحد من أهل الحديث عالماً من رموز مدرسة المعتزلة بعد أن أصيب بالشلل النصفي (الفالج)، فاستبشر المصاب بهذه الزيارة من عدوه، واعتبرها دلالة على النبالة والترفع عن التفاهات عندما قرب الفراق ودنت ساعة الحقيقة، ولكن الزائر وقف على سرير المريض وقال له: “إنما زرتك شامتاً لا عائداً”. ولو أنه لم يفصح عن دافعه، لكانت النية كفيلة بخلق حاجز خفي من الوحشة والنفرة بينهما. فالنية هي الأساس لأن الله استجاب دعاء ذلك الذي قال: “اللهم أنت عبدي وأنا ربك”.
وفي هذه الأيام يعج كثير من مساجد المسلمين وفضائياتهم بالقنوت والدعاء بالهلاك والانتقام لأنواع من الأعداء. وفي الآونة الأخيرة اتخذت دوافع القنوت وأذونات السماح بإقامته في الصلوات صبغة سياسية، لأن توافق مئات أو آلاف المساجد في دولة ما على الدعاء في نازلة ما، في وقت محدد وضد جهة معينة أو لصالح فئة ما، إنما هو تعبير عن إعلان سياسي ينال مباركة الحكم والقيادة ويترجم عبر الطقوس والشعائر.
ومن يتتبع سوق الأدعية المعاصرة، وفنونها ومجالاتها والفئات المستهدفة والأمم المقصودة والتيارات المعنية، أو الأفراد المحددين، يصيبه الهول والقلق، لأن غالب هذه الدعوات هي نوايا سلبية، تتربص الدمار والهلاك.
أحياناً يكون الدعاء طلباً لعرض مدهش تظهر فيه لأجل خواطرنا عجائب قدرة الله، لأننا نظن أننا نستحق هذا التدليل وهذه المتعة، ربما لأننا نشعر بالملل والرتابة التي يسير بها الكون، ولم يعد يرضينا أي شيء في زمن الإنترنت والهاتف المحمول، فنحن لا نطلب أن تتجلى عجائب قدرة الله في انتظام أحوالنا وائتلاف مجتمعاتنا ورفع مستوى تحضرنا، بل نريدها أن تتجلى في عروض دموية ساحقة لكل من يخالفنا أو يناقض مصالحنا.
لنتأمل صلوات المحبة التي يبعثها مؤمنون آخرون في أنحاء العالم لكل بني الإنسان، تلك الصلوات التي تتمنى للبشرية المعذبة التائهة الطمأنينة والرضى والسعادة. ربما لو فعلنا الشيء مثله في الهزيع الأخير من الليل وأعقاب الأذان وعند هطول المطر لوجدنا أثرها الإيجابي فينا نحن، قبل أن نتلمس انعكاسها في الآخرين. فالنوايا الحسنة التي تعبر عن الحب وإرادة الخير لها مفعول الأشياء المادية الحسية، والعين والحسد والانجذاب والجذب والبركة التي نراها تلوح على محيا بعض من نعرفهم، والطمأنينة التي تغشانا حين نكون بحضرة واحد من الحكماء والمتنورين، ومشاعر الحب أيضاً، إنما هي تعبير صادق عن أثر الباطن والنية والعواطف وتأثيرها في كل ما حولنا.
الاتحاد الإثنين 16 أبريل 2012