منصور النقيدان
قبل سنوات زرت داعية معروفاً وحوله جموع من مريديه وأتباعه، ورأيت فيهم أشخاصاً تكررت رؤيتي لهم في زيارات سابقة، كلما سنحت الفرصة لزيارتي له. سألت بعدها صديقاً لي عن حقيقة ما يفعله هؤلاء في حياتهم، وعن أثر هذا الشيخ عليهم، وعن أهدافهم، والسر في التصاقهم منذ سنوات بعباءته، وكيف يدبرون معائشهم ويوازنون بين هذا الإدمان وبين عوائلهم، فقال لي: “إن هؤلاء يستمدون وجودهم من الشيخ، ولو ذهب لرأيتهم بسجائرهم في الأسواق”. لقد كانوا وقتها شباباً دون الثلاثين، والذكاء يشع بين أعينهم، ولكنهم قضوا سنوات رضوا فيها لأنفسهم أن يكونوا زينة لمجلس الشيخ، يكاثر بهم أقرانه ويفاخر بهم خصومه، حيث يبادرون لقضاء طلبات زوجاته المتخاصمات، ويعلفون أبقاره، ويسعون في نقل معاملات استثماراته من دون أتعاب. كان يمكن أن يتحرروا وقتها ويستعيدوا جوهرهم الإنساني، ولكن بعد تلك السُّخَرة وسنوات البلاهة التي أضاعوا عليها زهرة أعمارهم، تلاشى ذلك الوميض وأصبحوا أشخاصاً عاديين جداً، يتمتعون بعقول معيشية دنيا، لا يطمحون أبداً إلى أكثر من الجلوس ساعات في القيل والقال، والشجار حول صفقات لا تزيد عن ألف درهم في الغالب، بينما ودع شيخهم رسوم التقوى وانخرط في لعبة جديدة تدر عليه الملايين، احتل فيها أغلفة المجلات النسائية التي يحرص هؤلاء المساكين على اقتنائها، والبكاء على حظوظهم والدعاء على شيخهم الذي نسيهم بعد أن أضاع أعمارهم.
وكنت أعرف واحداً من هذه الفئة البائسة، كان يقود سيارته كل يوم ويقطع عشرات الكيلومترات، ليقف في الطوابير حتى يصله الدور ليطبع قبلة على رأس الشيخ، ثم يختار مكاناً له بين الحشود ويدس جسده بينهم ليهنأ ما تبقى من الوقت في تأمل طقوس السلام والتحايا المعدة سلفاً والمجاملات المبتذلة، كان صاحبنا يكرر الأمر كل يوم.
هذه صور من مجتمعنا، توضح جناية التماثل والاستنساخ للأفراد وقولبة الجميع وفق نمط واحد، لا يشذ ولا يختلف، مع أن الاختلاف هو سر هذا الكون، وجوهر الحياة، وأكثر قوانين الوجود صرامة. سنة التغير والتحول لا تحابي البتة، فالأمل يعقب الانكسار والطموح يأتي بعد الفشل واليأس، والشروق يلي الليل البهيم، والتكرار والتماثل والاستنساخ والهوس بالسكون أكبر علامات التقهقر، فالمياه الآسنة القارة مستودع الأوبئة والأمراض.
وحين نتأمل عميقاً في شخصية عمر بن الخطاب، ومواقفه مع الرسول، صلى الله عليه وسلم، واجتهاداته وأفكاره الجريئة والخلاقة تجاه كثير من التشريعات، وهي أفكار لم يكن يخفيها بين ظهراني الرسول وكبار أصحابه، فسينكشف لنا أن عمر كان أعظم خلفاء الإسلام ومشرعيه، لأنه كان ذا لسان سؤول وعقل حر، لا يكل عن التفكير.
إن التحرر من الأنماط الثابتة والأنساق الصارمة هو الخطوة الأولى نحو التحرر، وللحرية والاستقلال كلفة عالية وخسائر كبيرة، ولكنها تجعل منا لائقين بالأمانة التي منحت لنا من قبل الخالق، وأكثر ثقة بأنفسنا، واحتراماً لنعمة العقل والتفكير والاختيار.والقرآن الكريم طافح بالوصايا التي تشجع الأفراد على التفكير والاختيار والشك والتساؤل. فالسؤال هو عتبة المعرفة.
والمنعطفات الكبيرة في تاريخ الحضارة البشرية إنما صنعت على أيدي أفراد فكروا بطرق مختلفة، وامتلكوا الشجاعة ليتجاوزوا السائد الذي استقر لعقود أو قرون. فالسائد حينما يتحول إلى تعاليم ثابتة، تتخشب مع الزمن، وتحاط بهالة من القداسة تمنع من نقدها أو إعادة النظر فيها، وتصبح كالقوالب، أو كالسقالات التي نبنيها مع الزمن في عقولنا بسبب أفكارنا الخاصة التي نرفض تجاوزها، يحد من التفكير، ويجعل منا مثل شروخ الأقراص المدمجة، لا يمكن إزالتها إلا بالتخلص من الأقراص نفسها، كما كان يعبر ستيف جوبز. ولهذا فلنكن كما كان يوصي: “كونوا عطاشى، وكونوا مغامرين”.
الاتحاد 9/4/2012