منصور النقيدان
في اللحظات الحرجة تظهر المعادن الحقيقية، وفي المواسم السيئة والأزمات الخانقة يكون الجميع في امتحان صعب، تتحدد من خلاله المواقف، ويظهر المكبوت على السطح، وينكشف ما هو حقيقي وما هو مزيف ومصطنَع، وما هو أوهن من خيط العنكبوت، أو أكثر صلابة من الماس.
وهذا كما يصدق على الأفراد العاديين في علاقاتهم مع المحيطين بهم، ومع أقربائهم، وأصدقائهم، فهو يتجلى أيضاً في السياسيين والمسؤولين والوزراء، وكل من وثقت بهم القيادات السياسية في حالات الرخاء.
وكما يحدث دائماً عبر التاريخ، فإن بعضاً من الناس حين يرون السفينة قد قاربت على الغرق، ويشهدون المحنة تغشى بلادهم، حيث يتكالب الأعداء، وتحوم الذئاب، وتنكشف الظهور لكل طاعن وغادر، حينها يتنكرون لمن خدموهم عشرات السنين، ونالوا في حماهم مكانة مرموقة، ورفعة اجتماعية.
حين أحاطت جيوش بني العباس بمروان بن محمد آخر خلفاء بني أمية، اختار عبدالحميد الكاتب أن يبقى بجواره، وأن يفي له، وقرر ألا يخون صاحبه، ولا يخذله حين انفض الناس من حوله، وصبر، وقاتل، ومحضه الإخلاص إلى حين رحيله من هذه الدنيا. وأحياناً تكون الخيارات متاحة أمام الإنسان، فكل شيء أمامه، المال والجاه والنفوذ إن هو خان عهده، ولكن قلة تختار الوفاء، وهو سجية رفيعة، تختزل كل الصفات العظيمة: النبالة والشهامة والشجاعة والرجولة. وهكذا فعلت قلة ممن أحاطت بشاه إيران السابق على رغم أخطائه، ومنهم إحسان نراغي الذي ذكر تفاصيل قصته مع الشاه في كتابه “من بلاط الشاه إلى سجون الثورة”.
ثمة فئة أخرى لا يبلغ بها سوء الأحوال مثلما حصل مع عبد الحميد الكاتب أو نراغي، ليظهر معدنها، وهم أولئك الوطنيون الذين يكونون دائماً محل الثقة والمسؤولية ومظنة الإخلاص، وهي صفات نادرة تكون كامنة فيهم بحكم النشأة والتربية، ولكنها تكون أجلًا حين تتلاطم الأمور، وتضيع الحكمة، وينساق الناس وراء الشعارات، وتعصف بعقول الشباب المذاهبُ وتستلب ألبابهم وتأسر أرواحَهم.
وقد كان غازي القصيبي الشاعر الوزير والروائي والمثقف الراحل، مثالاً صادقاً على هذا النوع من الرجال. كان القصيبي راضيّاً بما وصل إليه، مطمئناً لمسار حياته، وقد ذكر مرة أنه لو ولد من جديد، لاختار أن يبدأ القصة نفسها، وأن يولد بالاسمِ نفسه، في ظلّ الظروف نفسها،”فحياتي بفضل الله ممتلئةٌ وسعيدة ومثيرة”.
في كتاب عن “القصيبي” صدر مؤخراً، إشارة إلى أن القصيبي “كان هو الأكثر تأثيراً وإلهاماً لجيلٍ نشأ في مناخٍ سياسي واجتماعي وثقافي، حيث كان غازي حاضراً في كل منعطفاته التاريخية السياسية والاجتماعية خلال خمسين عاماً، وليس غريباً أن يحتلُ مكانة متقدمة في قائمة عظماء السعودية”.
أعفي القصيبي من الوزارة بعد قصيدة عاصفة 1984، ولكنه حين أحاطت الأخطار ببلاده بعد احتلال الكويت، كان فارساً في عين العاصفة، ولم يخذل أهله، في وقت تساقطت فيه الأقنعة وكشر صديق الأمس عن عداوته.
لم يكن القصيبي الوحيد في زمانه ولكن أمثاله قلة، حيث توافرت فيهم صفات قلما تتكرر، ولهذا جالت في شوارع الرياض مجموعة صغيرة من الشباب والفتيات في رمضان الماضي، لتوزع على المارة بعضاً من كتب الراحل، وهو حدث نادر لم يحصل من قبل.
الحكمة تقول دائماً إن قدوات بين أيدينا عايشناها، واختبرناها ورأينا ميزاتها وعيوبها، خير من الغوص في حقب التاريخ السحيقة بحثاً عن ملهمين، كانت أزمنتهم وظروفهم وأحوالهم السياسية والثقافية والتاريخية والمصاعب التي تواجههم، بعيدة كل البعد عن يومنا وزماننا.
الاتحاد تاريخ النشر: الإثنين 05 مارس 2012