منصور النقيدان
في عام 1789، بعد مرور وقت على اقتحام سجن «الباستيل» في باريس، طلب رجل فرنسي من النبلاء يسمى شارل جان فرنسوا دوبون من صديقه السياسي البريطاني الإيرلندي أدموند بيرك أن يدلي برأيه وانطباعاته وأفكاره إزاء التحوّلات السياسية والمفترق التاريخي الذي تشهده بلاده. أجاب «بيرك» على «دوبون» برسالتين متتاليتين، فنُشرت الرسالة الثانية التي كانت أكثر طولاً من الأولى، بعد أشهر عديدة تحت عنوان «تأملات حول الثورة في فرنسا».
كان «بيرك» متشائماً جداً إزاء ما يحصل في عاصمة الأنوار، معتبراً أنّ هذه الثورة ستنتهي بكارثة، ولا تشبه في أي شيء الثورة البريطانية التي سبقتها بمئة عام. هوجم «بيرك» بسبب هذا الكتاب، ولم ينصفه التاريخ إلا عندما تحقّقت نبوءته في وقت لاحق، فصار مرجعاً في الأوساط المحافظة والليبرالية التقليدية بعد إعدام الملك لويس السادس عشر وماري أنطوانيت، وسيادة حقبة الرعب التي جاءت مع حكام الثورة، مع اعتقال مئات الآلاف من المواطنين، وإعدام الآلاف لأسباب سياسية، ثم الانقلاب العسكري الذي جاء به نابليون بونابرت وإرساء الديكتاتورية العسكرية التي وضعت حداً للفوضى والعنف.
بعض المفكرين يميلون إلى تشبيه الحقبة التي نعيشها الآن بما حدث في عام 1848، والفوضى والاضطرابات التي اكتسحت أوروبا، ولكن يبدو أننا نعيش في بداية الألفية الجديدة حقبة تشابه إلى حد كبير ما عرفه العالم عشية الحرب العالمية الأولى، وما عرفه في أعقاب الحرب العالمية الثانية، حيث نشهد صعود قوى عالمية، ونحن العرب نحتل موقع الذيل من القوى الفاعلة في تغيير العالم وتشكيله. القوى العظمى اليوم هي التي تحرك التاريخ، ولا حيلة للسيطرة على «الميديا» ولا على الشبكة العنكبوتية التي يخضع الشباب والناشئة لتأثيرها السام.
«لن نسمح لأنفسنا أن نبدو أمام شعبنا وأمام العالم دولة رجعية لا تنتمي إلى هذا العصر، ولكننا سنسعى قدر ما يمكننا لتوعية مجتمعنا، وحمايته من التأثير المدمر لشبكات التواصل الاجتماعي، لا يمكننا أن نقوم بحجب «تويتر»، ولكننا سنسعى أن نكون مؤثرين فيه بشكل يخدم مصالح وطننا ويوجه أبناءنا نحو الخطر الحقيقي». هذا كان تعليق مسؤول سعودي في سؤال وجه إليه في فبراير 2014، حول إمكانية اتخاذ قرار بحجب شبكات الضرار الاجتماعي.
علينا أن نكون أكثر شجاعة في التعبير عن شكوكنا وخيبة أملنا إزاء التبشير المكتسح المضلل بحقبة جديدة من الديمقراطية في منطقتنا وفي عالمنا العربي، علينا ألا نشعر بالعار أو العيب حينما نقدم أنفسنا أمام العالم كأبناء ثقافة انسجمت لأحقاب وقرون مع ثقافة سياسية وتقاليد تثبت كل يوم أنها راسخة وضاربة الجذور، وأننا رغم كل ذلك نسعى للتصالح والاستفادة والشراكة في عالم المستقبل.
إن المثقفين والكتاب ومن يسمون بالخبراء قد أخفقوا في تقديم أفكار عملية بعيدة عن الخيالات والأوهام والمثاليات للحفاظ على تماسك الدول والمجتمعات، فهم يقضون أوقاتهم في الثرثرة حول الديمقراطية والحريات السياسية، في الوقت نفسه الذي تسقط فيه أنظمة وتنهار مجتمعات وتحترب طوائفها، وتزداد انقساماً، ويستبيح بعضهم دماء بعض.
لحسن الحظ أننا نمر بتحولات وتطورات إيجابية لصالح الدول والأنظمة والمجتمعات التي حماها الله من فوضى «الربيع العربي»، وإذا ترافقت مع ذلك وقاية أكبر لحماية مؤسساتها الأمنية من الاختراق، ومؤسساتها التربوية من الأفكار الضالة التي ينفثها الخوارج وأتباع التنظيمات السرية، وتشريعات وقوانين أكثر صرامة وقسوة على سموم شبكات التواصل الاجتماعي، فمن المؤكد أن ذلك سيصب في تماسك الدول القادرة على رفاه شعوبها وترسيخ العدالة الاجتماعية، ومحاربة الفساد، مقابل التنازل عن أوهام الحريات السياسية وضلالات أحلام الديمقراطية وحكم الرعاع.